أدري الصورة مو في البحرين بس انتون مشو العزا ألحين
تعلمت في قديم الزمن أن أذهب إلى كولمبوس كافيه ظهيرة كل جمعة، هناك أحتسي القهوة وأقابل الكمبيوتر الذي أستخدمه لتنزيل ما شاء الله من الأفلام على ظهر المحل.
ما يحدث عندما ترتاد المقاهي هو أنك تكتسب مهارة اسمها التخطيط الاستراتيجي لبسطتك،فتجد نفسك بعد الممارسة تحسن اختيار المكان الذي تجلس فيه. صوب البلك إذا كنت ناتع روحك إنته باللاب توب، في ركن هادئ إن كنت تقرأ، في الوسطة جنك مزهرية إن كنت مفوشري وتحب الناس تشوفك أبو كوفيات وبني كوفيات وهكذا.
بالنسبة لي وفي كولمبوس بالتحديد أجلس دائما قبال الطاولة التي يجلس عليها فادي، مدير المحل اللبناني، الي مدري من وين هالملعوص يجيب ليه عشرة وعشرين قطعة مقطعة ويزقلهم قدامه، سود الله وجهه من أسود وجه، أنا أقعد هناك ليش لأن داك الصوب يهف هوى الإيسي زين، في غير مكانات الصراحة ما يهف.
حطو كولمبوس في بالكم سأعود إليه لاحقا، ولكن الآن سأحدثكم عن موضوع دار بيني وبين ربة عملي قبل ما يقرب السنة، هي إنسانة تحب تتسأل، ولازم قبل أن تمن علينا بتوقيعها على الأوراق تبرد خاطرها بجم سؤال وسالفة عن الأديان والمجتمعات وما إلى ذلك من حجي، مرة من المرات سألتني: ليش يحرقون! قلت: لأن ما عدهم شغل!
وتعال سولف، تكلمنا في الموضوع بطوله وعرضه وفي النهاية لم أتمكن أنا من لوم من قادتهم ظروف قهرية إلى حالهم البائس، شباب بلا طموح ولا دراسة ولا أمل في الحصول على وظيفة، وفي ذات الوقت لم تستطع هي كونها من أصحاب رأس المال لوم زملاءها الذين لهم الحق في الإستثمار في من يملك القدرة على زيادة مالهم وشحن جيوبهم فقط.
الخلاصة أنهم مساكين، وأرباب البزنز مو مشكلتهم أن الحياة ظالمة، ولكنها خلاصة لم تكن ستفضي إلى شيء لولا أن مديرتي قالت قبل أن تشير إلي بالإنصراف: جد هؤلاء، سنقوم بتهيئتهم هنا، ثم سنبحث لهم عن وظائف بسيطة عوضا عن العطالة.
وتكاد تكون هذه المرة هي الأولى التي لم أتململ فيها من إضافة عبئا فوق أعبائي، بل على العكس احترمت هذه المرأة كثيرا، وتمنيت لو كان غيرها من أصحاب الأعمال يفكرون مثلما تفكر. تبنيت هذا الموضوع النبيل وكأنه مشروعي الخاص، وسعيت طوال العام المنصرم في البحث عن العاطلين ممن لم يكملوا دراستهم الجامعية لدعوتهم للمشاركة في جلسات تهيئة بمعية مختصين بالتطوير البشري.
رأيت في هذه الجلسات التي دفعت مديرتي تكاليفها من جيبها الخاص البلاوي الزرقة، بعض الناس جار عليهم المرض، آخرون أعدمهم الفقر، غيرهم تحولت حياتهم إلى جحيم بعد أن خطف الموت معيلهم، وغيرها قصص لا تنتهي. بعد هذه الجلسات اتفقت مع أحد المقاهي على توظيف أكثر من 250 عاطلا حوتهم قائمتي رغم أن عدد من التزموا بحضور الجلسات جميعها أقل من 20.
إثر الإتفاق، وفي اليومين الماضيين كان شغلي الشاغل الإتصال بهؤلاء لأخبرهم بموعد مقابلة العمل، كان عدد الذين وافقوا على حضور المقابلة يعد على الأصابع أما جل القائمة تنوع بين أناس لم يردون وأناس قالت أنها أكبر شأنا من أن تحضر القهوة، و الـ 300 دينار إلا شوي لا تجيب رأسهم، وهم رغم أنهم بلا دخل لعام وأكثر لا يريدون إلا العمل خلف المكاتب وفي وظائف إدارية.
خذ لك مثلا واحدة أقصى تعليمها هو الإبتدائي قالت أنها تريد العمل في شركة طيران أو في مجال البرمجة، وأخرى غسلت شراعي لأني بعرض توظفيها في مقهى قمت باحتقار أصلها البحريني أبا عن جد، ولو تسمح لي أمانة العمل كشف القوائم بما تضمنت من ردود لجعلتكم تضحكون من اليوم إلى عقب باجر، ولكن احتراما لهؤلاء الناس ولعسر حالهم سأكتفي بالقول أن الردود في مجملها كانت ما نبغا وإذا في وظيفة ثانية اتصل!
في نهاية يوم عمل منهك، تذكرت وأنا أحشو رأسي بالدخان أيام كولمبوس الذي سولفت ليكم عنها قبل شوي، بالتحديد تذكرت حسين، محضر القهوة الذي كان يبادلني أطراف الحديث وهو يعمل خلف البار، الوجه المألوف الذي عرفت أن صاحبه يدرس معي في ذات الجامعة، بشاشة الرجل ولطافته جعلته رفيقا ألاقيه في كولمبوس كل جمعة، أتحدث معه بينما يعد قهوتي ثم أتركه ينهمك في العمل بينما أبحث عن مكان قريب من فادي وربعه (حيف الإيسي كان يهف).
كم هو عظيم حسينوه، يدرس في الجامعة ويعمل في مقهى، يفعل ذلك وهو ابن مجتمع يتفنن أفراده في ترك مخلفاتهم على الطاولات ليأتي العامل ينظف من وراءهم، ابن مجتمع مزاجه العام أن مثل هذه الوظائف للفلبينيات والهنود (الي لحين مانا داري احنا احسن منهم في ويش) ومن راعايا دولة لا تمانع أن يكون الحد الأدنى لمدخول مواطنيها 250 دينار لا تغني ولا تسمن من جوع.
هو عظيم لأني لم أراه متبرما أو واجما يوما من الأيام، لم أراه متعبا، أو متحرجا من أن يحضر القهوة لشخص مثلي يصرف مدخوله ليضع رجلا على رجل في المول ويبصبص في البنات بينما كان هو يتسفيد من وقته الزائد ليحصل على دخل اضافي، كان بإمكانه أن يكون مثلي ومثل بعضهم يلوم من يلوم، ويعفي نفسه من مسؤولية فعل شيئا ما، ولكنه كان مختلفا، كان مكافحا.
هذا حسين وشأنه، ومثله آخرون، شاب صغير تعرفت عليه حين قمت بجلسة فضولية في أحد فروع المقهى قبل أيام من موعد المقابلات لأرى حال العاملين فيه، من فرط لطفاته وخوفه من أن أصاب بالمرورة في جبدي شرح لي كيف يجب أن أتناول قطعة الحلوى قبل أن أهم بشرب الإسبريسو، وآخر كان يعمل في الفرع الذي أجرينا فيه مقابلات التوظيف، وعدني أني سأترك القهوة السوداء التي أعتادها بعد أن أجرب الـ الموكافقصفصسيسبشينو الذي يعده، وكان عند وعده.
هؤلاء أبطال، ليس لأنهم يعملون وحسب بل لأنهم ضد ثقافة القطيع التي تتحرج من العمل في مثل هذه الوظائف، ومختلفين عن السواد الأعظم الذين شأنهم شأن سيفوه وخلاجينه، لا أريد أبدا أن أذم في أحد بينما أجلس مرتاحا ولا أريد أن أطالب أحدا بما لم أفعله، لذا سأكتفي بذم نفسي في السطور التالية، ولكن يا جماعة، سالفة الوظيفة الإدارية هذه مقيتة وربما في مقام آخر أعيد ما قلته عنها في سناب جات قبل أيام، وسالفة أريد العمل في وظيفة حكومية التي لنا جميعا الحق في تمنيها مقيتة أيضا، أما الأمقت من هذا وذاك هو النظرة الدونية للعمل والنظرة الدونية للآسيويين، التوزيع السخيف للأدوار ليكون تحضير القهوة شغل الفلبن واحنا شغلتنا نشربها ونرمي القلاص على الطاولة.
قلت بالأمس في بوست طويل على الفيسبوك أن لولا طياحة الحظ وأمر القدر لصرت عالما مرموقا في الفيزياء، صاحب نظريات في الفلك أو مهندس صواريخ تمخر عباب السماء، إحدى الصديقات ردت متضامنة:
علي، إنتَ إنسان رائع.. والحياة بت كلب
وكتبت على صفحتها
آسفة، لكل أصدقائي الرائعين المفعمين بالمواهب و الطاقة.. و اللي الحياة معاهم بنت كلب..
بالإذن من جمانة، لست رائعا، لو كنت كذلك لما أوقفني شيء في الوصول إلى ما أردت الوصول إليه، أنا كغيري من البليدين من أبناء هذا البلد ضعيف أمام الكسل، وجبان أمام الحياة التي ما إن حاولت الوقوف في وجهها حتى صفعتني وأقعدتني، لم أصل لما أطمح، وهو – بيني وبينكم – العيش في أبعد دولة من هذه الجزيرة التي تمللت منها، لكني وصلت بقليل من العمل وكثير من الحظ إلى مكان في المنتصف، شي بين الزين والشين، وربما لو كنت بعدي في الشين، حالي من حال هؤلاء الذين اتصلت لهم لأجبت مثلهم، فمن يضمن أني كنت سأكون شجاعا على كسر نمطية المجتمع وتخريفاته فيما خص العمل؟ حقا لا أستطيع الإدعاء، وحدهم من يحق لهم ادعاء الشجاعة حسين ومن مثله.
حسينوه
شكرا لك على كل كوب قهوة أعددته لي
شكرا لك لأنك صديقي
شكرا لك لأنك مثابر
لم تتكاسل
ولم تجد في العمل أيا كان عيب
شكرا لك لأنك فخور بنفسك
وفخور بما تفعل
لأنك لم تنتظر أن توظفك دولتنا النفطية
في وزارتها
ولم تصر على بدء من مسيرتك المهنية
من منصب مدير
إن قالت لي جمانه أني إنسان رائع
أقول لك أنك إنسان أكثر من رائع